فصل: سنة اثنتين وثمانين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس هذه السنة سليمان بن عبد الملك، وكان ممن حج أم الدرداء الصغرى. وفيها ولد ابن أبي ذئب.
وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة. وكانت سجستان وكرمان وفارس والبصرة بيد عبد الرحمن. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وثمانين:

.ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث:

قيل: في المحرم من هذه السنة اقتتل عسكر الحجاج وعسكر عبد الرحمن بن الأشعث قتالاً شديداً، قتزاحفوا في المحرم عدة دفعات، فلما كان ذات يوم في آخر المحرم اشتد قتالهم فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه وقاتلوا على خنادقهم، ثم إنهم تزاحفوا آخر يوم من المحرم، فجال أصحاب الحجاج وتقوض صفهم، فجثا الحجاج على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل وعزم على أنه لا يفر.
فحمل سفيان بن الأبرد الكلبي على الميمنة التي لعبد الرحمن فهزمها وانهزم أهل العراق وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن وقتل منهم خلق كثير، منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي وجماعة من القراء قتلوا ربضة واحدة معه.
ولما بلغ عبد الرحمن الكوفة تبعه أهل القوة وأصحاب الخيل من أهل البصرة، واجتمع من بقي في البصرة مع عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم الحجاج خمس ليالٍ أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وبعه طائفة من أهل البصرة، وقتل منهم طفيل بن عامر بن واثلة، فقال أبوه يرثيه، وهو من الصحابة:
خلى طفيل علي الهم فانشعبا ** وهد ذلك ركني هدةً عجبا

مهما نسيت فلا أنساه إذ حدقت ** به الأسنة مقتولاً ومنسلبا

وأخطأتني المنايا لا تكالعني ** حتى كبرت ولن يتركن لي نسبا

وكنت بعد طفيلٍ كالذي نضبت ** عنه السيول وغاض الماء فانقبضا

وهي أبيات عدة. وهذه الوقعة تسمى يوم الزاوية.
فأقام الحجاج أول صفر واستعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي. وسار عبد الرحمن إلى الكوفة، وقد كان الحجاج استعمل عليها عند مسيره إلى البصرة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي حليف بني أمية، فقصده مطر بن ناجية اليربوعي، فتحصن من ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر، فاخرج ابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام، وكانوا أربعة آلاف، واستولى مطر على القصر، واجتمع الناس وفرق فيهم مائتي درهم مائتي درهم.
فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر، فخرج أهل الكوفة يستقبلونه، ودخل الكوفة وقد سبق إليه همدان، فكانوا حوله، فأتى القصر، فمنعه مطر بن ناجية ومعه جماعة من بني تميم، فاصعد عبد الرحمن الناس في السلاليم إلى القصر، فأخذوه، فأتي عبد الرحمن بمطر بن ناجية فحبسه ثم أطلقه وصار معه. فلما استقر عبد الرحمن بالكوفة اجتمع إليه الناس وقصده أهل البصرة، منهم عبد الرحمن بن لعباس بن ربيعة الهاشمي بعد قتاله الحجاج بالبصرة.
وقتل الحجاج يوم الزاوية بعد الهزيمة أحد عشر ألفاً خدعهم بالأمان وأمر منادياً فنادى: لا أمان لفلان بن فلان، فسمى رجالاً، فقال العامة: قد آمن الناس، فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا.

.ذكر وقعة دير الجماجم:

وكانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وقيل: كانت سنة ثلاث وثمانين.
وكان سببها أن الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن محمد فنزل دير قوة، وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم. فقال الحجاج: إن عبد الرحمن نزل دير الجماجم ونزلت دير القرة، أما تزجر الطير؟ واجتمع إلى عبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة والقراء وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم فاجتمعوا على حرب الحجاج لبغضه، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم، وجاءت الحجاج أيضاً أمداد من الشام قبل نزوله بدير قرة، وخندق كل منهما على نفسه، فكان الناس يقتلون كل يوم ولا يزال أحدهما يدني خندقه من الآخر.
ثم إن عبد الملك وأهل الشام قالوا: إن كان ير1ضى أهل العراق بنزع الحجاج عنهم نزعناه فإن عزله أيسر من حربهم ونحقن بذلك الدماء. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان، وكان محمد بأرض الموصل، إلى الحجاج في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج وأن يجريا عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام، وأن ينزل عبد الرحمن بن محمد أي بلد شاء من بلد العراق، فإذا نزله كان والياً عليه ما دام حياً وعبد الملك خليفةً، فغن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنها وصار محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبى أهل العراق قبول ذلك فالحجاج أمي الجماعة ووالي القتال ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته.
فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أوجع لقلبه من ذلك، فخاف أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: والله لو أعطيت أهل العراق نزعي لم يلبثوا إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، أم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه، وإن الحديد بالحديد يفلح.
فأبى عبد الملك إلا عرض عزله على أهل العراق. فلما اجتمع عبد الله ومحمد مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يا أهل العراق أنا ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا. وخرج محمد بن مروان وقال: أنا رسول أمير المؤمنين، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. فقالوا: نرجع العشية، فرجعوا واجتمع أهل العراق عند ابن الأشعث، فقال لهم: قد أعطيتم أمراً، انتهازكم اليوم إياه فرصة، وإنكم اليوم على النصف، فإن كان اعتدوا عليكم بيوم الزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء لقوم هم لكم هائبون وأنتم منتقصون، فوالله لا زلتم عليهم جرآء وعندهم أعزاء أبداً ما بقيتم إن أنتم قبلتم.
فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله قد أهلكهم فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرخيص والمادة القريبة، لا والله لا نقبل! وأعادوا خلعه ثانية.
وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجمع عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيجان وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس.
فقال عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك واعمل برأيك فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع. فقال: قد قلت: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركم، فكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلم عليهما بالإمرة. فلما اجتمع أهل العراق بالجماجم على خلع عبد الملك قال عبد الرحمن: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر من قريش فمني تقويت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث، ومد بها صوته يسمع الناس وبرزوا للقتال.
فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الملبي، وعلى رجاله عبد الله بن خبيب الحكمي؛ وجعل عبد الرحمن بن محمد على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجنبته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسادها وهم في خصب، وأهل الشام في ضنك شديد قد غلت عليهم الأسعار وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون. فلما كان اليوم الذي قتل فيه جبلة بن زحر بن قيس، وكانت كتيبته تدعى القراء تحمل عليهم فلا يبرحون، وكانوا قد عرفوا بذلك، وكان فيهم كميل بن زياد، وكان رجلاً ركيناً. فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وعبأ الحجاج صفوفه وعبأ عبد الرحمن أصحابه، وعبأ الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم فحملوا على القراء ثلاث حملات كل كتيبة تحمل حملة فلم يبرحوا وصبروا.

.ذكر وفاة المغيرة بن المهلب:

وفي هذه السنة مات المغيرة بن المهلب بخراسان، وكان قد استخلفه أبوه المهلب على عمله بخراسان، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد بن المهلب وأهل العسكر فلم يخبروا المهلب، فأمر يزيد النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة.
فاسترجع وجزع حتى ظهر جزعه، فلامه بعض خاصته، ثم دعا يزيد ووجهه إلى مرو ووصاه بما يعمل وإن دموعه لتحدر على لحيته.
فكان المهلب مقيماً بكش بما وراء النهر يحارب أهلها، فسار يزيد في تين فارساً، ويقال سبعين، فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة بست، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار قالوا: فأعطونا شيئاً. فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي ثوباً وكرابيس وقوساً، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم فقاتلوهم فاشتد القتال بينهم، ومع يزيد رجل من الخوارج كان قد أخذه، فقال: استبقني، فاستبقاه. فحمل الخارجي عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقتل رجلاً ثم كر حتى خالطهم وقتل رجلاً ورجع إلى يزيد، وقتل يزيد عظيماً من عظمائهم، ورمي يزيد في ساقه، فاشتدت شوكتهم، وصبر يزيد حتى جاوزهم، فقالوا: قد غدرنا ولا ننصرف حتى نموت أو تموتوا أو تعطونا شيئاً، فلم يعطهم يزيد شيئاً. فقال مجاعة: أذكر الله، قد هلك المغيرة، فأنشدك الله أن تهلك فتجتمع على المهلب المصيبة. فقال: إن المغيرة لم يعد أجله ولست أعدو أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا.

.ذكر صلح المهلب أهل كش:

وفي هذه السنة صالح المهلب أهل كش.
وكان سبب ذلك أنه اتهم قوماً من مضر فحبسهم وصالح وقفل وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن.
وسار المهلب فلما صار ببلخ كتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخل الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كش: إن المهلب كتب إلي كذا وكذا، فغن عجلت الفدية سلمت إليك الرهن وسرت وأخبرته أن كتابه ورد وقد استوفيتها منكم ورددت عليكم الرهن.
فعجل ملك كش الفدية وأخذ الرهن، ورجع حريث، فعرض لهم الترك فقالوا له: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذاً أم يزيد. وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم، أسرى، ففدوهم فأطلقهم ورد عليهم الفداء.
وبلغ المهلب قوله فقال: يأنف العبد أن تلده أم يزيد، فغضب، فلما قدم عليه بلخ قال: أين الرهن؟ قال: خليتهم قبل وصول كتابك وقد كفيت ما خفت. قال: كذبت ولكنك تقربت إليهم. وأمر بتجريده، فجزع من ذلك حتى ظن المهلب أن به مرضاً، فجرده وضربه ثلاثين سوطاً. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلاثمائة ولم يجردني أنفة وحياء؛ وحلف ليقتلن المهلب.
فركب يوماً مع المهلب فأمر غلامين له أن يضربا المهلب، فلم يفعلا وقالا: نخاف عليك أن تقتل. وترك حريث إتيان المهلب، فأرسل إليه أخاه ثابت بن قطبة ليأتيه به وقال له: إنك كبعض ولدي أدبه كبعضهم، فأتى ثابت أخاه وسأله أن يركب إلى المهلب، فلم يفعل، وحلف ليقتله، فقال ثابت: إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم. وخاف ثابت أن يقتل حريث المهلب فيقتلون جميعاً، فخرجا في ثلاثة من أصحابهما المنقطعين إليهما.

.ذكر وفاة المهلب بن أبي صفرة وولاية ابنه يزيد خراسان:

لما صالح المهلب أهل كش رجع يريد مرو، فلما كان بمرو الروذ أخذته الشوصة، وقيل الشوكة، فمات منها، وأوصى إلى ابنه حبيب فصلى عليه، وقال لهم: قد استخلف عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال له ابنه المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه.
واحضر ولده فوصاهم، وأحضر سهاماً فحزمت، فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال: أفتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والقلة والذلة، وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من مقالكم، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش منها ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحيوا العرف، واصنعوا المعروف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف بالصنيعة عنده عليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة، فإنها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات، رحمه الله، فقال نهار بن توسعة التميمي يرثيه:
ألا ذهب المعروف والعز والغنى ** ومات الندى والجود بعد المهلب

أقام بمرو الروذ رهن ضريحه ** وقد غاب عنه كل شرقٍ ومغرب

إذا قيل أي الناس أولى بنعمةٍ ** على الناس قلنا هو ولم نتهيب

فلما توفي كتب ابنه إلى الحجاج يعلمه بوفاته، فاقر يزيد على خراسان.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي، فعزل هشام نوفل بن مساحق عن قضاء المدينة، وولى على القضاء عمرو بن خالد الزرقي، وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فهزمهم، ثم سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله، فغدروا به فتقلوه، وقيل: بل قتلوه سنة ثلاث وثمانين.
وفيها قتل عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي بدجيل. وفيها مات أو الجوزار أوس بن عبد الله الربعي، وعطاء بن عبد الله السليمي العابد.
السليمي بفتح السين المهملة، وكسر اللام.
وفيها مات زاذان، وأبو وائل، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعمره ستون سنة. وفيها مات أبو أمامة الباهلي، وقيل: سنة إحدى وتسعين. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وثمانين:

.ذكر بقية الوقعة بدير الجماجم:

فلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة: يا عبد الرحمن بن أبي ليلى! يا معشر القراء! إن الفرار ليس بأحد بأقبح منه منكم، غني سمعت علي بن أبي طالب، رفع الله درجته في الصالحين وآتاه ثواب الصاديقين والشهداء، يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعة إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجسر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور في قلبه باليقين، فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم. فقال الشعبي: أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك، وقال جبلة: احملوا عليهم حملةً صادقةً، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى توقعوا صفهم.
فحملوا عليهم حملةً صادقةً، فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها، وتقدموا حتى واقعوا صفهم فأزالوه عن مكانه، ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلاً لا يدرون كيف قتل.
وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية، فلما رأوا أصحاب جبلة قد تقدموا قال بعضهم لبعض: هذا جبلة، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال. فحملوا عليه فلم يول لكنه حمل عليهم فقتلوه، وكان الذي قتله الوليد بن تحيت الكلبي، وجيء برأسه إلى الحجاج فبشر أصحابه بذلك. فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلاً سقط في أيديهم وتنازعوه بينهم، فقال لهم أبو البختري: لا يظهرن عليكم قتل جلة إنما كان كرجل منكم أتته منيته فلم يكن ليتقدم ولا ليتأخر. وظهر الفشل في القراء، وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله قد هلكتم وقد قتل طاغيتكم! وقدم عليهم بسطام من مصقلة بن هبيرة السيباني، ففرحوا به وقالوا: تقدم مقام جبلة. وكان قدومه من الري، فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة، وكان شجاعاً، فقاتل يوماً فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن. فقال الحجاج: منعوا نساءهم، لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم.
وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المابرزة، فخرج إليه رجل من أهل الشام، فتضاربا، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ وإذا هما ابنا عم، فتحاجزا. وخرج عبد الله بن رازم الحارثي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله، ثم فعل ذلك ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الرابع خرج، فقالوا: جاء لا جاء الله به! فطلب المبارزة، فقال الحجاج للجراح: أخرج إليه. فخرج إليه. فقال له عبد الله، وكان له صديقاً: ويحك يا جراح ما أخرجك؟ قال: ابتليت بك. قال: فهل لك في خير؟ قال الجراح: ما هو؟ قال عبد الله: أنهزم لك وترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حباً لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي. قال: افعل. فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله، وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله، فصاح بعيد الله غلامه، وكان ناحية معه ماء ليشربه، وقال له: يا سيدي إن الرجل يريد قتلك! فعطف عبد الله على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه، وقال له: يا جراح بئس ما جزيتني! أردت بك العافية وأردت تقلي! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطاهم، وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام لأنه كان نزولهم بالجماجم لثلاث مضين من ربيع الأول، وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة.
فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا. فبينا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد، وهو في ميمنة الحجاج، على الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن، فانهزم الأبرد بن قرة من غي قتال يذكر، فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس، فلما انهزم تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضاً، وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي الناس: إلي عباد الله. فاجتمع إليه جماعة، فثبت حتى دنا منه أهل الشام فقاتل من معه ودخل أهل الشام العسكر، فأواه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعاً يهلكهم الله به.
فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء، ثم رجع الحجاج إلى الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وأخذ الحجاج يبايع الناس، وكان لا يبايع أحداً إلا قال له: اشهد أنك كفرت، فإن قال: نعم، بايعه، وإلا قتله، فأتاه رجل من خثعم كان معتزلاً للناس جميعاً فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله، فقال له: أنت متربص، أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل! أنا أعبد الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر! قال: إذاً أقتلك. قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار. فقتله ولمي بق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه.
ثم دعا بكميل بن زياد فقال له: أنت المقتص من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحب من أن أجد عليك سبيلاً. قال: على أينا أنت أشد غضباً، عليه حين أقاد من نفسه أم علي حين عفوت عنه؟ قم قال: أيها الرجل من ثقيف لا تصرف علي أنيابك ولا تكشر على كالذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، اقض ما أنت قاضٍ فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب.
قال الحجاج: فإن الحجة عليك. قال: ذلك إذا كان القضاء إليك. فأمر به فقتل، وكان خصيصاً بأمير المؤمنين. وأتي بآخر من بعده، فقال له الحجاج: أرى رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر. فقال له الرجال: أتخادعني عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك منه وخلي سبيله.
وأقام بالكوفة شهراً، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة، أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها، وهو أول من انزل الجند في بيوت غيرهم، وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم، ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

.ذكر الوقعة بمسكن:

ولما انهزم عبد الرحمن أتى البصرة واجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير، وكان فيهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي، وكان بالمدائن محمد بن سعد بن أبي وقاص، فسار إليه الحجاج، فلحق ابن سعد بعيد الرحمن، وسار عبد الرحمن نحو الحجاج ومعه جمع كثير فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، وقد بايعه خلق كثير على الموت، فاجتمعوا بمسكن، وخندق عبد الرحمن على أصحابه وجعل القتال من وجه واحد.
وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمسة عشر يوماً من شعبان أشد قتال، فقتل زياد بن غيثم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وهد أصحابه. وبات الحجاج يحرض أصحابه، ولما أصبحوا باكروا القتال فاقتتلوا أشد قتال كان بينهم، فانكشفت خيل سفيان بن الأبرد، فأمر الحجاج عبد الملك بن المهلب فحمل على أصحاب عبد الرحمن، وحمل أصحاب الحجاج من كل جانب، فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي، ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة فكسروا جفون سيوفهم وحث أصحابه على القتال، فحملوا على أهل الشام فكشفوهم مراراً، فدعا الحجاج الرماة فرموهم وأحاط بهم الناس فقتلوا إلا قليلاً، ومضى ابن الأشعث نحو سجستان.
وقد قيل في هزيمة عبد الرحمن بمسكن غير هذا، والذي قيل: إنه اجتمع هو والحجاج بمسكن، وكان عسكر ابن الأشعث والحجاج بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهراً ودونه، فأتى شيخ فدل الحجاج على طريق من وراء الكرخ في أجمة وضحضاح من الماء، فأرسل معه أربعة آلاف وقال لقائدهم: إن صدق فأعطه ألف درهم، فإن كذب فاقتله. فسار بهم، ثم إن الحجاج قاتل أصحاب عبد الرحمن، فانهزم الحجاج فعبر السيب، ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمناً ونهب عسكر الحجاج فأمنوا وألقوا السلاح، فلم يشعروا نصف الليل إلا والسيف يأخذهم من تلك السرية، فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممن قتل، ورجع الحجاج في عسكره على الصوت فقتلوا من وجدوا، فكان عدة من قتل أربعة آلاف، منهم: عبد الله بن شداد بن الهاد، وبسطام بن مصقلة، وعمرو بن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم.